الأربعاء، 24 أغسطس 2016

عمر طاهر : الدستور 2009

الدستور 2009
.....

الشيخ أحمد القصبى واحد من مريدى سيدنا الحسين، كان يقطن إلى جواره فى بنسيون فقير داخل غرفة بائسة تطل نافذتها على المشهد الحسينى.

تعرَّفت إليه فى أحد الموالد وأحببته من النظرة الأولى، كان رجلًا صافيًا مرحًا ودرويشًا على مصرى بلا افتعال، كنت أزوره يوميًّا فى بداية عملى فى مجلة «نصف الدنيا» التابعة لـ«الأهرام»، كمتدرب بجنيهات قليلة بلا أى معالم واضحة للمستقبل بلا أى وعود بتوظيف حقيقى ورسمى فى المجلة.

أدخل غرفته فأسأله: «هناكل إيه النهارده يا عم أحمد؟» فكان يسألنى: «معاك كام؟» فأخرج جنيهات قليلة، فيقول لى: «خليهالك»، ثم يتركنى فى الغرفة ويطلب منى أن أغسل الأطباق وأجهّز المكان لوليمة، وحتى يومنا هذا لا أعرف كيف كان يتركنى وهو مفلس ويعود إلى الغرفة حاملًا دجاجةً وأرزًا وسمنًا وخبزًا وشايًا وسكّرًا، فى البداية كنت أبدى اندهاشى فيقول لى: «دى بركة سيدنا الحسين»، ثم راحت الدهشة بالتدريج وتعلَّق قلبى به وبالمكان وبحفيد سيدنا النبى (صلى الله عليه وسلم)، كنت أتسلل إلى غرفة عم أحمد فأراه جالسًا فى شباك غرفته ينظر إلى السماء والدموع تنهمر من عينيه: «مالك يا عم أحمد؟» أسأله فيقول لى: «آه من الحب.. آه من الحب»، ثم يلفّنا الصمت لفترة طويلة حتى يعود إلى طبيعته.

كان عم أحمد درويشًا مثقّفًا، حيث كان يتاجر فى الكتب الدينية، كنت أقرأ له ما كتبته قبل أن أسلّمه للنشر، وكانت انطباعاته مريحة دائمًا ومشجّعة وكانت دعوته المفضّلة لدى: «ربنا يخبّز لك العيش فى الأهرام».

وفى أيام المولد كانت حجرته الصغيرة تتحوَّل إلى (خدمة) بلغة المولد، وهى المكان الذى يستريح فيه المريدون ويقدّم لهم الطعام والشاى، كنت أشاركه الخدمة وأنا فى منتهى السعادة وأعتقد أنها كانت أسعد أيامى فى هذه الفترة.

حدثت حركة تعيين لدفعتى فى «الأهرام»، تجاوزتنى هذه الحركة وخرجت منها مقهورًا شاعرًا باليأس، توجَّهت إلى عم أحمد، فقال لى بالنص: «ماتقلقش، إن شاء الله سيدنا الحسين هيعيّنك فى الأهرام»، أشحت بيدى معترضًا، فقال لى: «قريب جدًّا سناء البيسى هتجيلك لحد مكتبك وتعيّنك».. كنت أرى ما يقوله محض دروشة لم أكن أتوقعها منه، ففترت علاقتى به وانقطعت عن زيارته لفترة.

بعد شهور من العمل بلا أى أمل فى التعيين زُرت عم أحمد وقلت له لقد حصلت على تأشيرة سفر إلى إنجلترا ووعد بالعمل هناك إلى جانب استكمال الدراسة، فطلب منى أن لا أتعجَّل وذكَّرنى بما قاله لى، لكننى لم أكن مقتنعًا حيث لم أدّخر جهدًا خلال الفترة الماضية للحصول على التعيين بلا فائدة، طلب منى أن أزور قبر سيدنا الحسين للسلام وقراءة الفاتحة وطلب منى أن أخبره بما قررت أن أفعله.. ففعلت.

كان يوم الأحد عندما ذهبت إلى السفارة البريطانية فى الثامنة صباحًا وحصلت على التأشيرة، قلت لنفسى ما زال الوقت مبكرًا سأزور «نصف الدنيا» لتوديع الزملاء الذين عرفتهم خلال الفترة السابقة.

كان المكتب فارغًا، جلست أحتسى القهوة وفوجئت بالأستاذة سناء البيسى تفتح الباب وعلى وجهها ابتسامة كبيرة، وقفت مرتبكًا، فقالت لى: «أنا كلّمت أستاذ إبراهيم نافع فى موضوع تعيينك وكتبت له طلبًا ووافق».

فى غرفة عم أحمد كان المشهد مختلفًا.. قال لى: «طلع كل اللى فى جيبك»، كانت جنيهات إسترلينية، نزلت معه إلى ساحة المسجد ورأيته وهو يوزّعها على أصدقائه الدراويش، كنت فرحًا للغاية وكان الدراويش فى ملابسهم الرثّة أشبه بالملائكة، كانت وجوههم تشع نورًا، استوقفنى أحدهم مستخدمًا عصا طويلة، ثم سأل: «ماله ده يا عم أحمد؟»، فقال له عم أحمد: «بارك له ده اتعيّن فى الأهرام»، سألنى الرجل «عارف مين اللى عيّنك فى الأهرام؟» فسكت تمامًا، وضع الرجل عصاه فى الأرض ونظر إلىّ مبتسمًا، قائلًا: «سيدنا الحسين».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق