السبت، 20 أغسطس 2016

عمر طاهر : صنايعي كولونيا

صنايعية مصر 

حمزة الشبراويشى .. صنايعى كولونيا الـ 555 

(1) قبل أن أبدأ البحث و الكتابة اشتريت عبوة من كولونيا 555، أعرف أنها تفصيلة لها قيمتها فى حياة المصريين منذ عقود طويلة، لكننى كنت أحاول أن أعرف ماذا تعنى بالنسبة لى، لم أعثر على واحدة بسهولة من أول مرة، ثم لمحت الرصة فوق أحد الرفوف فى صيدلية،
وعندما شممتها انفتح باب المشاهد وكانت أسرع من القدرة على الإمساك بها. حقن الطفولة، قطنة مبللة بالثلاث خمسات تعنى أن هناك حقنة فى الطريق، صالون الحلاقة و نتيجة حائط دعائية عليها صورة الكولونيا و تحتها شعار (بانتعاش) الحلاقة ثم الصيحة الشهيرة عقب رشها (هسسااااااااح)، فى عزومة الإفطار فى المندرة بعيدا فى الصعيد هناك شخص يقف فى انتظار الضيف بعد أن يغسل يديه يقدم له الفوطة ثم الكولونيا، نزلات البرد لا يصلح معها خافض للحرارة مثلها، مرآة حمام بيت الجدة و المقاس الكبير من الكولونيا فى أحد الأركان متمم للاستحمام و أحيانا منظف جيد للمرآة، هدية للأب فى عيد الأم، أفضل مطهر للجروح (شوفوا لنا تلت خمسات)، أسرع طريقة لمساعدة من فقد الوعى على استعادته، إزالة الشحوم والأوساخ، إزالة طلاء الأظافر، بعد كتب الكتاب يتم رش الكولونيا على المدعوين عشوائيا، معطر للجو يجلب الانتعاش، يرشها الواحد فوق بطنه ثم يرتدى شيئا ثقيلا ليخرج برد المعدة، تسريحة غرفة العروسة فى كل بيت كنا نزوره أطفالا لنقدم التهنئة، رائحة ركن مقاعد كبار العائلة فى آخر الجامع فى صلاة العيد. 

كان لابد أن أعيد الاختبار لكن مع آخرين. 

(2) 

فى كل مرة كانت توضع أمام عبد الناصر قوائم بأسماء ستخضع لقرار التأميم كان ناصر يشطب على اسم حمزة الشبراويشى، لا يلتفت إلى وشاية أو تقرير أمنى، كان يؤمن بأن الشبراويشى رجل عصامى و ليس إقطاعيا، و يمثل مصر بصناعة وطنية، فمنتجاته فى كل بلد عربى، فى مصر تحمل اسم 555 وفى السعودية تحمل اسم ( سعود) و فى السودان تحمل صورة مطربهم الأشهر عبد الكريم كرومة، فى مصر أيضا كانت أم كلثوم بطلة إعلانات منتجات الشبراويشى فى الصحف، و عندما اقترضت مصر من أجل بناء السد العالى، كان يتم سداد جزء من هذه القروض فى شكل عينى ( ثلاجات إيديال، منسوجات قطنية، أثاث دمياطى) و كانت كولونيا 555 تحتل موقعا مهما فى هذه القائمة. من جهة أخرى كان ناصر زبونا لمنتجات الشبراويشى، و يحكى أحد القيادات الأمنية أنه عندما كان ضابطا صغيرا مسئولا عن تأمين مؤتمرات الاتحاد الاشتراكى وصل أحد موظفى الرئاسة يحمل للرئيس حقيبته الخاصة، أصر الضابط على تفتيشها، قال: وجدت فوطة وفرشة شعر وخرطوشة سجائر و زجاجة كولونيا 555. كان قراره صارما، لن نؤمم الشبراويشى.لكن لماذا تراجع؟ 

(3) 

خرج حمزة من قرية (شبراويش) لا يحمل شيئا سوى ذائقة فريدة موهبة فى صنع أسنسات العطور، فى البداية استقر فى منطقة الحسين و افتتح محلا صغيرا لبيع العطور التى يصنعها بيديه، عرف النجاح سريعا فافتتح فرعا فى الموسكى ثم وسط البلد، ثم قرر ان يتحول معمله الصغير إلى مصنع، فاشترى قطعة أرض صغيرة فى دار السلام و كلما توافر لديه بعض المال كان يشترى قطعة مجاورة لتوسعة المصنع، وكان يزرع بنفسه الليمون الذى يستخدمه فى تصنيع الكولونيا، و ان الملك فاروق يقدم سنويا جائزة لأفضل حديقة منزل، و كان منزله فى المعادى بقطعة أرض حوالى فدان تفوز بالجائزة كل سنة، وكان فى عيد الأم يقيم نافورة فى أرض المعارض بالجزيرة تضخ الكولونيا طوال اليوم، وأصبحت منتجاته تفصيلة ثابتة فى حياة المصريين: الكولونيا وبودرة التلك و مستحضرات التجميل، إلى أن أصيب بجلطة. 

(4) 

كان حفيده يتحدث عنه بحماس المحبين، يقول: لم يكن مهتما بالسياسة، و قاوم إغراءات كثيرة لشراء مصنعه، كان عبود باشا يطارده ليل نهار لشراء المصنع، لكنه كان يؤمن بأن ما يقدمه غير صالح للبيع. صمت الحفيد لثوان ثم قال: مازلت أحتفظ ببعض دفاتر المصنع التى تقول كيف كان حجم تجارته داخل و خارج مصر، لكن ليس هذا الموضوع، الموضوع أننى حتى يومنا هذا كلما فتحت الدفاتر أستنشق بين الصفحات رائحة الكولونيا التى كان ينتجها المصنع باقية كما هى رغم مرور السنين، هى أشبه بأغنية ناجحة لأم كلثوم عمرها طويل و لا تذبل أبدا. 

(5) 

أصيب حمزة الشبراويشى بجلطة مع نهاية عام 1965، و سافر إلى سويسرا لتلقى العلاج، لم يكن يعرف أن ناصر يستبعده طول الوقت من قرارات التأميم، لو كان يعلم ما خاف أن يرجع، كان يتابع من سويسرا أخبار الأذى الذى يتعرض له أصحاب بعض الصناعات، فقرر أن تكون العودة إلى بيروت بعد ان تم الشفاء. 

افتتح فى بيروت مصنعا صغيرا لتصنيع العطور كبداية جديدة بعيدة عن الجو العام فى مصر، استغل البعض ما حدث و كانت الوشاية مكتملة الأركان، حمزة الشبراويشى هرب من مصر إلى لبنان و سيستقر هناك بعد أن يصفى أعماله و يسحب أمواله كلها، هنا كان قرار عبد الناصر بفرض الحراسة على ممتلكات الشبراويشى، و تم عرضها للبيع، و كان المقابل الذى دفعته شركة السكر و التقطير لشراء مصنع الشبراويشى و المحلات و الاسم التجارى و المنزل و بعض الفدادين زهيدا للغاية لم يتجاوز مبلغ 165 ألف جنيه. عرف حمزة الشبراويشى الخبر و فهم أنه لا مجال للعودة، فاستمر فى لبنان ينتج و يواصل نجاحه حتى توفى مع نهاية الستينيات و عاد إلى مصر جثمانا ليدفن فيها حسب وصيته، كان الشبراويشى يعتبر عمال المصنع شركاءه فى التجربة وكانوا على قدر المسئولية فحافظوا عليه من بعده واستمرت منتجاته ناجحة، و عندما مات شيعوه سيرا على الأقدام من ميدان التحرير إلى مدفنه. 

(6) 

عرضت على آخرين أن يخوضوا معى اختبار الرائحة، قال أبى رائحة والده و هو يستعد للخروج بعد العصر هى رائحة أيام الصبا الحلوة، قالت الأم هى الرائحة الوحيدة التى رأيتها تصلح (رجالى و حريمى)، قالت الزوجة رائحة جدتى فى لحظات مرحها و انتعاشها هى رائحة لطافة الثمانينيات، قال صديقى أرسلونى طفلا لشراء واحدة أثناء تغسيل خالى و حاليا يعيش خالى بهذه الرائحة فى خيالى إلى الأبد. عاشت الثلاث خمسات فى وجدان المصريين سنوات طويلة، لكن السبرتو مادة طيارة لا تبقى على حالها، بيت المعادى الذى حصل على كأس الملك فاروق و بعد فرض الحراسة بسنوات تحول إلى منزل للسفير الإسرائيلى منذ عام 1980 حتى رحل عن المعادى، مصنع دار السلام مهجور ومغلق منذ أكثر من خمسة عشر عاما و تحول إلى مقلب للقمامة، أما الكولونيا نفسها فيكن لها البعض محبة تاريخية، أما البعض الآخر فقد صار يراها مناسبة للسخرية و المعايرة. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق