الأحد، 21 أغسطس 2016

عمر طاهر : حماده

عندما كنت طالبًا جامعيًّا كان (حماده) يزاملنى فى الكلية وفى الإقامة بالمدينة الجامعية، كان صعيديًّا ملتزمًا دينيًّا لدرجة لا تصل إلى التطرف، ولكنها تقف عند حدود الوقار بحكم كونه عذب الصوت يؤمُّنا فى الصلاة فى الكلية أو المدينة الجامعية، الأمر الذى جعله يحافظ على سمعته بالابتعاد عن مَواطن الشبهات مثل السينما و الكرة والموسيقى و الحديث إلى الزميلات... نشأت علاقتى به عقب مشاجرة مع أحد أفراد الجماعة الإسلامية فى المدينة بسبب إصراره على إيقاظى لصلاة الفجر... انتهت المشاجرة بتعنيف حمادة له واعتذار خفيف الدم، أرغمنى على الوقوف خلفه فى أول صف مستمتعًا بالصلاة وبصوته العذب، بعدها خرجنا لتناول الإفطار على عربة فول.

فى إحدى المرات كنت أحلق ذقنى فى غرفتى مستمعًا إلى علاء عبد الخالق (ألبوم علشانك)، طرق الباب وكان الصعيدى.. دخل وتعمدت أن لا أغلق الكاسيت وأن أتابع رد فعله فى المرآة.

شاهدته قلقًا ينظر ناحية الكاسيت ثم ينظر ناحيتى، كان علاء عبد الخالق يغنى وقتها:

إيدى بتدور على إيدك وأنا وسط الزحام...

محتاج أشوفك ألمسك على كتفك الطيب أنام..

شاهدت صديقى وهو يستسلم بالتدريج لصوت علاء عبد الخالق، نظر ناحيتى فى المرآة وسألنى (هو مين الأخ اللى بيغنى؟) فأجبته.

قلت له (ممكن تطفى الكاسيت لو عايز)، فهز رأسه معترضًا وراح يستمع بتركيز، عند مقطع فى الأغنية يقول فيه علاء:

باتمنى لحظة لقاك.. وباستنى ف رجوعك..

محتاج أصلى وراك.. واتوضى بدموعك

فوجئت بصديقى يمسح عينيه.

(مالك يا حماده؟)، قال لى: (النشيد ده فكرنى بأبويا الله يرحمه).

كتمت ضحكتى قدر المستطاع وقلت له: (أولاً ده مش نشيد.. ثانيًا خد اقرا مكتوب إيه قدام اسم الغنوة دى على الشريط).
كتب علاء عبد الخالق (إهداء إلى أبى).

طلب صديقى أن يستمع إليها مرة أخرى، ثم أخذ الشريط وانصرف.

جمع بيننا فضول شابين لم يجربا العيش فى القاهرة من قبل لاكتشاف عوالمها المجهولة، كنا نصعد إلى أوتوبيسات النقل العام عند بداية الخط ونجلس إلى جوار النافذة، بينما الأوتوبيس يتجول بنا فى شوارع القاهرة حتى يعود بنا إلى النقطة نفسها من جديد، من شرق العاصمة إلى غربها ومن عشوائياتها إلى مناطقها الراقية، وعندما نجد منطقة جوها العام يغرى بالنزول كنا نغادر الأوتوبيس لنتجول فيها سيرًا على الأقدام، كانت محصلة الجولة أننى قررت شراء منطقة (الكوربة)، أما حمادة فقد قرر أن يشترى (المعادى القديمة)، لكنه قال إنه سيصلى أولاً صلاة استخارة.

انتهت لعبتنا فى يوم كنا فى أوتوبيس 815 فى صباح يوم شتوى، كنا على مشارف الكيت كات، فى ممر الأوتوبيس يقف بالقرب مننا رجل وزوجته، كانت زوجته تتحدث إليه بصوت خفيض وهى تضع يدها على فمها، وكان الزوج صامتًا تمامًا، بدا من حركة يد المرأة أنها منفعلة قليلاً، لاحظت أنها لم تتوقف عن الكلام، فجأة صرخ الرجل قائلاً: كفاية.. كفاية بقى بينما ينهال عليها صفعًا هيستيريًّا.

لا أعرف كيف يمكن شرح هذا.. لكن حال الرجل كان يدعو للشفقة أكثر من حال السيدة التى تنهال فوق وجهها الصفعات، كان الرجل يائسًا ومستنزفًا، ووجدنا جميعًا صعوبة فى إبعاده عن زوجته، وما إن توقف الضرب حتى فقد الرجل وعيه وسقط أرضًا وفشلت كل محاولات إفاقته.

قال سائق الأوتوبيس إن الرجل مات.

أصيب حماده برعشة وزاغت عيناه ولم يعد قادرًا على الكلام.

حملته ونزلت به من الأوتوبيس وأجلسته على الرصيف.

كان يتنفس بصعوبة وأنا لا أعرف كيف أتصرف، أشار إلىَّ أن أجلس إلى جواره قائلاً: هابقى كويس هابقى كويس.

أحاول أن أتذكر اللحظة التى استقرت فيها محبته فى قلبى إلى الأبد.

فى  اليوم الأخير فى امتحانات البكالوريوس مررت فى أثناء خروجى من الجامعة بشلة أولاد وبنات تجلس فى هدوء تام، بينما حماده يتوسط هذه الشلة بهدوئه ووقاره المعتاد، كان أكثرهم جاذبية وحضوره يحظى بالاهتمام، وكان صوته يصدح مخترقًا صمت الجميع مغنيًا (إيدى بتدور على إيدك)، تلاقت أعيننا فلمحت فى عينيه الدموع نفسها التى رأيتها فى غرفتى.

...............................................................

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق