الجمعة، 26 أغسطس 2016

عمر طاهر

كيف تعرف أنك قد كبرت؟
بعيدًا عن نهجان قد يصيبك وأنت تصعد السلم.
بعيدًا عن فشلك لثوانٍ في أن تتذكر اسم الشخص الذي يصافحك الآن بحرارة في الشارع.
بعيدًا عن شعيرات بيضاء أخذت طريقها أسفل الفك، أو انحسار عشوائي للشعر بعيدًا عن منبته القديم فوق جبهتك.
بعيدًا عن تجمع الأصدقاء الذي يضيع منه وقت كثير في الترحم على مَن فارق الجمع، واجترار حلاوة وجوده التي ضاعت للأبد بعد سنوات تضيع بقية السهرة في تحديد رقمها الصحيح.
بعيدًا عن زيارة أصبحت منتظمة للطبيب حاملًا ملف التحاليل.
بعيدًا عن أن لاعبك المفضَّل أصبح الآن ضيفًا ثابتًا في استوديوهات التحليل الكروية يرتدي بدلة كاملة كما يليق برجل في طريقه إلى الخمسين.
بعيدًا عن اللحظة التي تكتشف فيها أنك لا تستطيع التمييز بين المطربين الجدد كما كان يفعل أبواك بالضبط.
بعيدًا عن كل تلك اللحظات التي تقول لك أنك كبرت، يظل الشعور الحقيقي بالمسألة مرتبطًا بلحظة مفرغة لا حدث فيها.
مجرد رسالة عابرة يلتقطها العقل بدون مقدمات من مكان مجهول، تقول للواحد إنه تجاوز مرحلة ما في الحياة، بينه وبينها ما يكفي الآن لأن يتأملها بهدوء.
أقود سيارتى فوق كوبري السادس من أكتوبر بعد منتصف الليل ملتزما أقصى اليمين،مصابيح السيارة لا تعمل ،أنظر لهذا الاستهتار الطفولي بمتعة شديدة قوامها خليط من الغرور والنزق.
غياب الإضاءة كان يبدو لي وكأنه مغامرة مسلية تثير قدرًا من الونس حتى الوصول إلى المنزل في الناحية الأخرى من المدينة، لكن بدون مقدمات بدت المصابيح التالفة وكأنها رسالة، سألت نفسي: هل ترى الطريق جيدًا؟
كان الراديو يبث إعلانًا عن أغنية جديدة للمطرب اللبناني عاصي الحلاني اسمها «فرصة عمر». كان عنوان الأغنية ملهمًا، ولكن ما إن بدأت الأغنية حتى تبدلت الأحوال تمامًا، دخول موسيقى قوامه الكمانجات والكلارينت، قطبي التعبير عن العوالم القديمة التي أتت منها الروح، لذلك كان الانتباه موجعًا بعض الشيء.
إلى أين؟. أنا لا أرى الطريق جيدًا، ويبدو من عدم اهتمامي بامتلاك مصابيح سليمة أنني لا أعرف تحديدًا إلى أين، فكيف إذن سأعرف يوما أننى قد وصلت!
كانت السيارات التي تمتلك مصابيح سليمة تمر إلى جواري مسرعة بينما تفشل محاولاتي لإنزال زجاج باب السيارة العطلان لأستنشق نسمة هواء باردة، إلى أن استسلمت تمامًا للموقف، بينما الكلارينت يهبط بأنغامه تدريجيًّا ليفتح المجال أمام المطرب ليقدم نفسه: «فرصة عمر.. كل العمر».
توقفت تمامًا، وفتحت الباب بحثًا عن الهواء، واستمعت إلى الأغنية كاملة حتى انتهت. كانت المرَّة الأولى التي أستمع فيها إلى أغنية لعاصي الحلاني كاملة.
كانت الأغنية تعبر عن عاشق يرى في حبيبته الفرصة التي ستحيل حياته كلها إلى جنة، لكنه اختار أن يعبر عن ذلك بموسيقى تشرح العناء الذي خاضه حتى استقر على باب هذه الجنة. لم يستقر في القلب من الأغنية إلا إرهاق تلك الرحلة. أنا أشعر بإرهاق ما في هذه اللحظة لم أعرفه من قبل، أنا أيضًا لديَّ أحزان لم أتوقف عندها لأعطيها حقها من الانتباه. كانت قفزاتي أوسع مما يجب لدرجة أنني لم أتوقف لأتأمل ما سقط من جيوبى اثناء القفز، كنت ألهث دون أن أعطى شيئا واحدا فى حياتى حقه كاملا، و مثلما يسابق الكلارينت صوت الحلاني كنت أنا أسابق الحياة بحثًا عن شيء ما لا أعرفه. الآن تحديدًا يوجعني بشدة أنني لا أعرفه.. لقد كبرت.
فتحت صندوق الكهرباء، وأزلت مفاتيح المصابيح الفاسدة، واستبدلتها بأخرى سليمة من داخل الصندوق نفسه، وكان نتيجة ذلك أن استغنيت عن الراديو.
تحركت.
أعيد على نفسي أغنية حفظتها من أول مرَّة، في منتصف الكوبري أرى صورة الحلاني كبيرة ومكتوب تحتها: «فرصة عمر.. حاليًّا بالأسواق»، عاد الإلهام من جديد، كبرت بما يكفى لإتخاذ قرار فورى بإحياء المصابيح التالفة، أنا الآن أرى الطريق بصورة أفضل، بينما يلوح في مرآة السيارة الجانبية طفل تركته في النقطة التي توقفت عندها قبل قليل، وكلما ابتعدت كانت ابتسامته تزداد وضوحًا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق