الثلاثاء، 23 أغسطس 2016

صنايعية مصر: امدريا رايدر

صنايعية مصر ... أندريا رايدر 
.......

(1) ذات ليلة شتوية خرج رايدر ليتجول قليلا فى شوارع سنتياجو عاصمة شيلي، كان هناك يمثل مصر فى مهرجان عالمى للموسيقي، سار طويلا بلا هدف متأملا كيف تغير كل شيء فى حياته بالوقت، اسمه، مهنته، جنسيته، إلى أن استقر فى محل صغير وطلب بعض القهوة، فقيل له لا توجد قهوة، وصف له الجرسون محلا مجاورا يقدم القهوة العربية، كانت تقف إلى جوارة سيدة ثلاثينية، عرضت أن تصحبه إلى هذا المحل لأنه فى طريقها.
أخذته من طريق إلى آخر ثم استأذنته لحظة لإحضار شيء ما من بيت أشارت إليه، دخلت ثم خرجت بعد دقائق و استأنفا السير، لكن بدون أية مقدمات ظهر خمسة رجال لا يبشر منظرهم بأى خير و أحاطوا بـ ( رايدر) والسيدة. 

(2) 

حتى ظهور رايدر ( وإلى جواره فى الوقت نفسه تقريبا الموسيقار فؤاد الظاهري) كانت هناك صيغة واحدة لا تتغير تقريبا فى تترات الأفلام المصرية،( موسيقى تصويرية: منتخبات بهنا)، كانت الموسيقى مختارات عالمية، و(بهنا) هو اسم العائلة السورية التى استقرت فى مصر مع بداية الثلاثينيات وعملت فى تجارة التبغ ثم هجرتها لصناعة السينما. 

لا أحد يعرف كيف كانت البداية لكن فى النهاية رحل رايدر بعد أن وضع الموسيقى التصويرية لأكثر من ستين فيلما مهما مثل ( دعاء الكروان، بين الأطلال، النظارة السوداء، الباب المفتوح، حسن و نعيمة، نهر الحب، اللص و الكلاب)، يقول المتخصصون أنه صنع معجزة فى موسيقى الأفلام، كان أول مصرى يعزف موسيقى تقول إن هناك حكاية ستبدأ حالا، أو أن هناك مأساة ما على وشك أن تحدث، وأول من جعل الأوركسترا تعزف موسيقى فلاحى تشبه مصر، التقطه عبد الوهاب فصار شريكا فى الكثير من نجاحاته من الوطنية ( وطنى الأكبر) إلى العاطفية (لأ مش أنا اللى ابكي) ، ثم كان شريكا لعبد الحليم ،من أكثرها رقة (أنا لك على طول) إلى أكثرها شعبية (أهواك)، وكان هو المايسترو الوحيد الذى وقف خلف أم كلثوم عندما قدما معا (على باب مصر). 

لكن النقلة الأهم جاءت عندما تولى رايدر تنفيذ (والله زمان يا سلاحي) النشيد الوطنى لمصر فى الفترة( 1960- 1979). 

مجهود رايدا جعله يحصل على وسام الاستحاق، ثم حدث أن أستيقظ ذات يوم عام 1970 على خبر يقول أن عبد الناصر منحه الجنسية المصرية، وكان هذا التغيير الثالث فى حياته، الأول أنه هجر اليونان، و الثالث أن الرجل اليونانى (أندريا أناجنستوس) أصبح مصريا معروفا باسم ( أندريا رايدر). 

بعدها بأسابيع رحل عبد الناصر، استلهم رايدر من أنشودة الجماهير التلقائية ( الوداع يا جمال يا حبيب الملايين) عملا ضخما شارك فيه الكبار اسمه .. ( نشيد الوداع). 

(3) 

فى تشيلى وقف رايدر محاطا بخمسة رجال انتزعوا ساعته بالقوة و كل ما يمتلك من نقود، رفض رايدر أن يكون ضحية سهلة، اشتبك معهم بضراوة، وأصاب بعضهم، لكنهم فروا بما سرقوه، وتركوه مصابا. 

كان رايدر والمطربة المصرية التى تشارك معه فى المهرجان (منار أبو هيف) فى ضيافة أسرة سورية، اتصلت بهم الشرطة لاستلام شخص وجوده ملقى فى الشارع، عاد معهم رايدر إلى البيت وكانت إصابته بسيطة، لكنه كان يغلى ويحاول أن يكتم غيظه وبقى فى البيت يومين لا يخرج ولا يعرف أحد ما يدور برأسه. 

(4) 

ما العلاقة بين رياضة الجودو، والموسيقي؟ 

لاحظ «شيجورو كانو» مؤسس اللعبة اليابانى أن الرياح الشديدة تحطم من الشجرة أغصانها الصلبة، لكنها لا تؤذى الأغصان الناعمة المرنة لأنها تنساب مع الرياح، فكر أن الحركات الخشنة ليست السبيل الوحيد للانتصار على الخصم، فكان أن أسس قواعد للعبة مستوحاة من الحركة المتناغمة للأغصان المرنة والتى جعلتها تنتصر على الرياح. 

كان رايدر بطلا فى لعبة الجودو، لكن الموسيقى لم تغب عنه، فاعتزل اللعبة و تفرغ للأخيرة و كان هذا هو التغيير الثاني. 

عندما ترك اليونان استقر فى الإسكندرية، عمل قليلا عازفا حرا، ثم اتجه لتدريس الموسيقى وكان أهم تلاميذه (منير مراد). 

تعلم رايدر من الجودو ما جعل موسيقاه مرنة متناغمة مثل أغصان الشجر حتى فى أعنف الألحان مثل ( جبار) لعبد الحليم. 

(5) 

اتصلت منار بزوجها بطل السباحة (عبد اللطيف أبو هيف)، كان موجودا فى الارجنتين للمشاركة فى بطولة ما، حكت له ما حدث و أخبرته بالحالة النفسية السيئة التى يمر بها رايدر، فسافر أبو هيف إلى تشيلي. 

بعد أيام خرج رايدر من عزلته و تجول مع أبوهيف فى الشوارع و تسلقا الجبال وبدا أن مزاجه على وشك أن يتحسن، و تفاءل الجميع خاصة و أن الحفل الختامى للمهرجان فى اليوم التالي. 

فى الرابعة صباحا استيقظ أبو هيف على صوت رايدر وهو يتأوه و يشكو من آلام شديدة فى ظهره، اتصل بطبيب السفارة المصرية الذى طلب نقله إلى مستشفى القلب المركزي. قبل أن يخرج من الباب التفت إلى منار قائلا: خدى بالك من ماري. 

كان المسرح قد امتلأ عن آخره و الوقت يجري، ثم قال لها أحدهم أن هناك اتصالا، كان زوجها الذى طلب منها أن تتولى الحفل و تقود الأوركسترا بنفسها بناء على تعليمات رايدر الذى أمره الأطباء بالراحة التامة ليومين. 

غنت و تألقت و بينما تتسلم الجائزة لمحت فى الكواليس زوجها. 

كان باديا من ملامحه ان كل شيء انتهي. 

رحل رايدر بعد أن أصبح مصريا بشهور قليلة. 

(6) 

فى الاحتفال بمئوية السينما المصرية تم اختياره كأحسن مؤلف موسيقى تصويرية فى تاريخ السينما. 

(7) 

طلب رئيس جمهورية تشيلى تشريح جثة رايدر بعد أن تداولت وكالات الانباء خبر مقتله، بعد أن عرفت الخارجية الخبر، اتصلت بزوجة رايدر تخيرها طبقا للقانون إما أن يدفن زوجها هناك أو ينقل الجثمان إلى القاهرة على نفقتها، طلبت نقله لكنها قالت انها لا تمتلك أجر النقل بالطائرة، تدخل عبد الوهاب و طلب من وزير الثقافة نقله على نفقة الدولة فوافق. 

قبض البوليس على اللصوص، و ظهر تقرير الطبيب ليقول إن وفاة رايدر حدثت بسبب انفجار فى الشريان التاجي، وكان باديا أن الإهانة التى تعرض لها غريبا هى التى قتلته. 

بعد أيام كانت ماري( أرملة رايدر) تصافح أم كلثوم وعبد الوهاب على باب كنيسة القديس قسطنين اللذين حضرا للعزاء، و عند الصلاة الجنائزية عُزَف آخر عمل قدمه رايدر قبل رحيله ( نشيد الوداع). 

...........................................................................كاتب المقال عمر طاهر 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق